الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن من حكمة الله ورحمته أن أرسل الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، واقتضت حكمته أن يكون الرسل أكمل الخلق في الصفات الخلقية والخلقية، كما اقتضت حكمته جل ثناؤه أن يكون آخر الرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأن يكون أعظمهم كمالاً وأوفاهم خصالاً.. .
ولأن الله جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة للبشرية فقد عنيت الأمة بحفظ سيرته حفظًا عجيبًا شمل كل دقائقها وتفاصيلها، فحفظت لنا كيف كانت صلته بربه ومناجاته له، وعلاقته بأصحابه وتربيته لهم، وكيف كان في بيته ومعايشته لأهله، وكيف كان يقود الجيوش ويبعث البعوث والسرايا.. فحفظت هذه السيرة حفظًا لا يدانيه ولا يماثله حفظ أي سيرة في الأولين والآخرين..
قصة بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقصة في الصحيحين - وفيها: أن أول ما نزل عليه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلى قوله { مَا لَمْ يَعْلَمْ } (1) . ثم أنزل عليه { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ }{ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ }{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }{ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ }{ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ }{ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } (2) .
فمن فهم أن هذه أول آية أرسله الله بها: عرف أنه سبحانه أمره أن ينذر الناس عن الشرك الذي يعتقدون أنه عبادة الأولياء ليقربوهم إلى الله قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات. وعرف أن قوله تعالى: { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها. وعرف قدر الشرك عند الله وقدر التوحيد.
فلما أنذر صلى الله عليه وسلم الناس، استجاب له القليل. وأما الأكثر: فلم يتبعوا ولم ينكروا، حتى بادأهم بالتنفير عن دينهم وبيان نقائصه وعيب آلهتهم. فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه. وعذبوهم عذابًا شديدًا، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم.
فمن فهم هذا، عرف أن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة لمن تركه وعيب دينه وإلا لو كان لأولئك المعذَّبين رخصة لفعلوا (3) .
_________
(1) الآيات من 1 إلى 5 من سورة العلق.
(2) الآيات من 1 إلى 7 من سورة المدثر.
(3) أي لو كان لهم رخصة في مداهنتهم وعدم إظهار العداوة والبغضاء لهم ولدينهم لفعلوا ذلك ليخلصوا من تعذيب المشركين لهم.
أنواع الوحي :
وكان الوحي الذي يأتيه صلى الله عليه وسلم أنواعا:
أحدها: الرؤيا. قال عبيد بن عمر : " رؤيا الأنبياء وحي " ثم قرأ: { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } (1) .
الثاني: ما كان الملك يلقيه في رُوعه - أي قلبه - من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم: « إن روح القدس نَفَث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله. فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته » .
الثالث: أن الملك يتمثل له رجلا فيخاطبه. وفي هذه المرتبة: كان يراه الصحابة أحيانا.
الرابع: أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وهو أشد عليه. فيلتبس به الملك. حتى إن جبينه ليتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد. وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض. وجاءه مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت ، فكادت تُرَض .
الخامس: أن يأتيه الملك في الصورة التي خلق عليها. فيوحي إليه ما شاء الله . وهذا وقع مرتين، كما ذكر الله سبحانه في سورة النجم.
السادس: ما أوحاه الله له فوق السموات ليلة المعراج، من فرض الصلاة وغيرها.
_________
(1) من الآية 102 سورة الصافات.